دأبت أدبيات الخطاب العربي المعاصر،على توظيفها الوفي للزوج نحن/ الغرب،منذ بواكير الخطاب النهضوي أواسط القرن التاسع عشر،قصد الإشارة إلى التفاوت التاريخي البيِّن،بين الزمن العربي الميت،والأفق الغربي المتوقد،حيث الاختلال والتفاوت الحضاري واضحين جدا،بين التقدم الغربي والانحطاط العربي؛المستمر نزيفه دون توقف.
وظل المهتمون بالإصلاح،يحاولون تحديد الفارق التأريخي؛بين ضفتي الجنوب والشمال،ربما بلغ الرقم عند أكثرهم تفاؤلا خمس قرون.
وضع في تقديري،ربما ردمت فجوته طبعا نظريا وافتراضا،مع التوضيب الجديد الذي أتى به فيروس كورونا،بحيث بدا كأن الزمن توقف،ولم تعد عقارب الساعة تسجل مزيدا من نقط التفوق لصالح المنظومة الغربية؛في ريادتها التاريخية.كيف ذلك؟
أود التأكيد مجددا على قناعتي الشخصية؛التي لاتلزم أحدا،مفادها أن العالم لم يكن أفضل حالا قبل سياق كورونا،مثلما تحاول بروباغندا الوعي الزائف إقناعنا،ولن يكون هذا العالم قط طمأنينة،حتى وإن شبعنا تفاؤلا،بأن الجهود الطبية الجبارة الجارية الحالية؛داخل أرقة الفضاءات العلمية،بإمكانها القضاء على التطور العضوي سواء لكورونا وباقي منظومتها الوبائية.نظرا،من جهة للتكلفة الثقيلة،اقتصادية وماليا،المترتبة عن ركود السنة الأولى،ثم لاأحد بوسعه الجزم بموعد نهائي،قد يضع خاتمة لأوزار الحرب؛المتداخلة والمتشابكة خيوطها.
"يدرك كل واحد منا،عند مستوى ما،أن نفسه الجسدية سوف تموت آخر الأمر.وهذا يعني أن الموت حتمي.وهذه الحتمية تخيفنا كثيرا(على مستوى غير واع).من هنا،وحتى نعوض عن خوفنا من الخسارة المحتومة لنفسنا الجسدية،نحاول إنشاء"نفس متخيلة"قادرة على العيش إلى الأبد.هذا هو السبب الذي يجعل الناس مهتمين كثيرا بوضع أسمائهم على المباني والتماثيل،وعلى الكتب أيضا"(مارك مانسون)
هل تخلد التكنولوجية موت الإنسان،أساسا بالنسبة للذوات التي ارتقت نحو مدارج الإقرار الرمزي داخل مجتمعاتها؟أم تلغي نوعيا الحياة السابقة،كي تبث تفاصيل حياة جديدة؛فيولد الشخص تقنيا بدلا عن سابق تجليه البيولوجي،كأنه لم يتحقق قط،بحيث يخلق نفسه بنفسه،بغض النظر عن قوانين المحددات العضوية،وكذا مواضعات السوسيو-ثقافي.
فعلا،توثق التكنولوجية للأيقونة في فوريتها وتجليها الكامل؛وفق أبعادها المادية التي تشغل حيزا ضمن سياقات المكان وتسري عليه قوانين الزمان،بحيث تعيد تشكيل حياة الميت، بكيفية مغايرة لما توخاه صمت الموت.
تختزن التكنولوجية،ذاكرة الشخص الميت؛عبر الصورة والصوت والحركات والإيماءات،فإنها حقيقة تمنحه ولادة غير مسبوقة أو هوية ثانية غير التي امتلكها إبان حياته الأولى قبل الإعلان النهائي عن ضرورة اختفائه.
يحدث معي غالبا،أني لاأنتبه حسب جدارة الثقافة المجتمعية إلى الأشخاص ولاأهتم بمعطيات ماهم عليه،مادام ذلك لايهمني أصلا،لكن عندما تجهز الموت؛ويتأكد انتقال أحدهم صوب فضاء عالم آخر غير عالمنا المتفق عليه.يستوقفني حينئذ للحظة أمره،كي أعيد بجدية تشكيل مختلف صوره المعروضة؛أحاول خلالها فهم أشياء كثيرة غابت عني،وكأني بصدد إرساء جديد،أتبيَّن عبره حضوره للمرة الأولى.
لاأعرف حقيقة على وجه التحديد،من باب الإنصاف التاريخي،إلى من أعيد تحديدا؛ أساس تحفيزي على عشق القراءة ومصاحبة الكتاب.مادمت،قد عشت خمس معطيات أساسية،أعتبرها محورية في مسار حياتي،بخصوص الارتباط بالكتاب والشغف بصحبته...
(1)
هل هي تجربة التعليم الأولي ماقبل الرسمي،داخل ثقب حجرة صغيرة علوية؛نصعد إليها عبر أدراج ضيقة مهترئة؛غير آمنة،تواجدت فوق مسجد وأمامها بيت متواضع لأسرة تتكون من سبعة أفراد،صارت أختهم الكبرى صديقة لي وأنا طفل،سميت،تلك الفجوة،تجاوزا مدرسة الانبعاث.والمعلم،لم يكن سوى الشاب عبد اللطيف؛المنحدر من إحدى البوادي المتاخمة لضواحي مراكش،المماثل جدا لتقاسيم بروفايلات حالمي السبعينات،بشعره الكث و الكثيف ولحيته ذات التفصيل الغيفاري.أستحضره، كما البارحة بعد هذه العقود.
لم يبق عبد اللطيف بالنسبة إلي معلما عاديا،بل سرعان ما أصبح واحدا من أفراد الأسرة،بعد أن توطدت صداقته بأبي وأمي،وشرع يزور بيتنا باستمرار؛لاسيما أنه أظهر منذ البداية،ودَّا خاصا لي ونحو أختي الصغرى،التي رافقتي دائما أينما ذهبت وارتحلت.بل هو الشخص الذي تكلف بمهمة تسجيلي،في سلك المدرسة العمومية حينما بلغت السن القانوني،نيابة عن أبي الذي أقعده حينئذ المرض،وبات تقريبا عاجزا عن الحركة.
قضيت مايقارب سنتين داخل تلك الحجرة،إلى جانب عشرات أطفال الحي،حيث تعلمت ألفبائيات العربية وأوليات الحساب،كما انفتح وعيي على ثقافة الصورة الفوتوغرافية،نتيجة جاذبية البرورتريهات المزركشة التي أتت الجدران؛هاته رصدت فلاحا مبتسما يحرث الحقل بجراره وأخرى أحاطت بتفاصيل راع يحث قطيعه على الالتئام…
تضمن كتاب حِرفة السوسيولوجي،مقدمات إبستمولوجية،نصوصا تهم التاريخ وفلسفة العلوم،مثلما انطوى على بيان حول السوسيولوجية، ذي حمولة واسعة جدا.
عمل اشتغل عليه بيير بورديو إلى جانب جون كلود شامبوردون وجون كلود باسرون،وصدر سنة 1968،ثم طبعة ثانية سنة 1972،بحيث وضع مقدمة إبستمولوجية للسوسيولوجية المعاصرة،توخى مضمون هدفها الأول بشكل واضح نحو ترسيخ بشكل أكثر صلابة الشرعية العلمية لهذا المجال،بوضعه بكيفية لالبس فيها ضمن امتدادات،الإرث الذهني ل''علوم الطبيعة"،الفيزياء ثم البيولوجية بالدرجة الأولى: آخر مولود للعلوم التجريبية''هذا العلم مثل الأخرى،تتطلع السوسيولوجية صوب نموذجها''وبالتالي يمكنها الاستفادة من مكتسبات ماسبقها،بالاستناد أساسا على تاريخها وكذا الإلمام بسيرورة تطورها.
هكذا،بوسع السوسيولوجية أن تستدعي تماما نظام''العلم التجريبي'' شريطة إزالة عدد معين من العوائق ثم تبني سلسلة''مبادئ"،ضمنها ضرورة تحقيق''القطيعة''و"بناء الموضوع'' (العنصر الأول والثاني)،كمعطيين جوهريين.
هكذا سيتم ''دمج ''على الوجه الأكمل إن صح القول،الابستمولوجية وتاريخ العلوم،ثم المنهجية،بخصوص الممارسة الفعلية للبحث السوسيولوجي،الذي يتوجه نحوه بجلاء مشروع هذا الكتاب.تشير أولى الإحالات الواردة في المقدمة إلى الخلفية الفكرية لهذا ''الوضع".
حضر الدرس الوضعي لأوغست كونت،لكن خاصة فلاسفة تاريخ العلوم،مثل جورج كانغليم وغاستون باشلار،قصد التذكير بعدم جدوى فصل المنهجية عن تطور العلوم،وكذا "فصل المنهجية عن الممارسة"بل يلزم دمج التقنيات ضمن مجموع عمليات البحث بما في ذلك أكثرها نظريا.يستحضر المفهوم المتبنى هنا،التصور الباشلاري عن''العقلانية التطبيقية'' (العنصر الثالث للمقدمة)،من هنا استبعاد الأتمتة البيروقراطية لعمليات البحث ثم أخيرا، تحديد''التحقق العلمي"من خلال الالتقاء التدريجي لنسق من البراهين تفترض اشتغالا جماعيا جيدا للنسق العلمي.