عرف المشهد السياسي الحديث والمعاصر،حضورا مترسِّخا لمجموعة نسوة أظهرن حنكة قيادية واضحة للصغير قبل المختص الاستراتجي،اتفق بخصوصها الأعداء قبل الخصوم،لأنهن ارتقين ببلدانهن حسب نسب متفاوتة طبعا،وتبعا لمحدِّدات اجتماعية تهمُّ كل بلد على حدة؛ومجموعة إنسانية دون غيرها،صوب مراتب إيجابية دوليا،مثلما طبعن ببصمات خاصة المعادلات السياسية الكبرى للمنتظم الأممي،وتوجهاته الجيو-استراتجية.
أسماء قائدات شَكَّلن مثالا للجدية والشجاعة والصلابة والمكابدة،بنكهة أنثوية صوفية،بلورن عمليا ممارسة سياسية بالمفهوم المحترم والخلاَّق للكلمة،سواء فترات السلم أو الحرب،وكتبن صفحات مجيدة للإنسانية بمداد حبره العَرَق والدأب والوفاء والحرص على المسؤولية الجسيمة،بكثير من التفاني والتضحية ونكران الذات.
بعد مرور سنتين على مابات يعرف بالجائحة،يبقى دائما السؤال المطروح،منصبا تحديدا حول الهوية الأصيلة لهذا الجبار المهول المسمى كورونا،فهل يتعلق الأمر ب :
حلم، كابوس، حقيقة، تدبير مقصود،زلة، سياق فعلي، دسيسة، علم، ميتافيزيقا، إيديولوجية، حرب عالمية، نظام جديد، بداية، نهاية، نعمة، نقمة، قطيعة، استمرارية، خطوة، وثبة ، أفق، عَدَم، ثورة، تراجع، قيامة، إلخ.
قد يكون هذا ال''كورونا''؛أيَّ واحدة من تلك النعوت والأحوال،وقد يعكسها جميعا، مثلما أيضا ربما لاعلاقة له بها،مادام سؤال الهوية يظل عويص الإشكالية حتى بخصوص المعطيات البسيطة، فما بال المرء بزلزال يذكر الإنسانية بواقعة قيامة العالم بمفهومها الديني.
بعد تراكمات كل هذه الشهور،تبقى أقرب حقيقة لموضعة وتعيين هذا المتبلور/ المتحور زئبقيا المشهور منذئذ أساسا بكورونا، كوفيد، الفيروس التاجي؛أنه مفهوم غير قابل قط للتحديد و التأطير أو التكثيف الدلالي.
مع ذلك، في خضم هذا الإبهام الهوياتي المتزايد،أسمح لنفسي افتراضا،بناء على قاعدة الزواج الجنسي المتباين؛الذي شَكَّل أصلا طبيعيا لبناء الكون من خلال البنية العضوية لثنائية :ذكر/أنثى.من ثمة،لن يخرج بدوره تحقق كورونا عن هذا المقوِّم البيولوجي الثنائي المنحى.إما الوباء ذكرا،بالتالي تكمن الغلبة في تبلور سيرورته للسمات الذكورية.مثلما،قد يكون أنثى،فتأخذ حياته طبعا وجهة مغايرة للإمكان الأول.
انخرطت في حديث ودِّي مع سائق التاكسي،أحاول تهدئته بجمل رغدة ومخملية تنهل من تركة مخزوننا الشعبي؛ربما استعاد هدوءه ورباطة جأشه،نتيجة انفعاله الشديد فأخذ غاضبا يلعن التاريخ والجغرافية ومابينهما،جراء مفعول سلوك سائق آخر انتشل منه رُكّابا،بطريقة غير مهنية تخلّ بالقوانين التي تنظم حسب الأعراف؛نظام عملهم اليومية.
والحالة تلك،أصبح مضطرا لطَيِّ مسافة تمتد من الضاحية غاية المدينة،بسيارة تحتاج أساسا إلى حمولتها المفترضة عَدَديا حتى لا يخسر في رحلته تلك،هامشا ربحيا؛مهما عوضته أنا الراكب الوحيد، فلن يكون حسب تخميني كافيا لسد الفجوة؛ مادامت المسافة لاتقل عن ثلاثين كيلومترا،وأثمنة المحروقات أضحت في زمننا العجيب والغريب تقارع نفائس الأساطير الآشورية،بالتالي تحتاج خطوطها البيانية،إلى مختصين استثنائيين في الكتابة المسمارية لتفكيك طلاسمها.
-''لاتحزن يا أخي،حتما ستصادف زبائن عندما ننعرج نحو الطريق الأساسية، فالمناسبة عطلة كما تعلم،وبالتأكيد سينتعش سعي حشود الناس وجهة المدينة''.
هكذا خاطبته،فأبدىت أساريره حقا شيئا من انبساطها،دون التفات إلي،وقد انكب بمجمله على تقليب إشارات التقاط أمواج أثير الراديو.
على بعد خطوات قليلة،بزغت بغتة أطياف ثلاث فتيات يهرولن من وسط خلاء نحو واجهة الطريق،ملوِّحات بكل جوارحهن نحونا.شكَّل حضورهن بالنسبة للسائق لفتة سماوية لاتقدر سقطت في الوقت المناسب جدا.
شابات في حدود العشرينات،غادرن مآويهن بأقمصة رياضية ذات ألوان فاقعة ومزركشة،تكشف دون مواربة عن تضاريس أجسادهن الممتلئة باستفاضة،وخصلات شعورهن منسابة دون تصفيف يذكر،لازالت ملامحهن متعبة كما يتبدى من أول وهلة؛تجتر بكيفية لاغبار عنها،تفاصيل إرهاق ليلي.أجساد منتفخة جزافا،دون تناسق أو وجهة موحَّدة،بل أرست معالمها تبعا لتكتَّلات هوياتية متنافرة ومتباعدة مكتفية بحيزها،دون اكتراث لبعضها البعض.
ارتمين دفعة واحدة داخل السيارة،تحت وطأة سرعة وضجيج مفرطين أثار وقعهما اضطرابا على محيا السائق،مما اغتال قبل الأوان بواكير فرحته باستيفائه عدد المقاعد الضروري،لتلافي الخسارة،وخيَّب في المهد أمله بهذه الإشراقة الصباحية المفترضة،حتى يمضي باقي ساعات العمل على تفاؤل مدخلها،لأن السائقين غالبا مايرسمون حدوس طبيعة نهاية يومهم تبعا لحيثيات البداية.
هكذا تلاشى الهدوء السابق غبارا،وأضحى في المقابل جَلَبة وفوضى عارمتين، قهقهات هستيرية بين الثلاث،تنابز بألقاب مسيئة دون حسيب ولارقيب،واندفاع للكلام على عواهنه.
فجأة دَوَّى إيقاع موسيقي شعبي من الدرجة العاشرة. إنه رنين محمول أكبرهِنّ سنّا؛ كما تنمُّ عن ذلك ملامحها وبنيتها الفيزيقية مقارنة مع الأخريين :
-''أهلا عبد القادر ''اعْشيري'' العزيز. ما الأخبار عندك… "
بعد ثواني من الصمت،تحت وقع خبر مهم تضمنته المكالمة.صرخت بكل عفويتها :
-''ماذا ! أدخلوه البارحة إلى''الكاشو''،ويقبع الآن وحيدا وسط ظلمة زنزانة انفرادية.ممتاز ياإلهي كم أشكرك !أريد له مصيرا أسوأ من هذا،لأنه وحش يستحق الأفظع…عموما، ''ميرسي ''على أخبارك الصباحية التي أطفأت حرقتي…"بيزو" حارة على امتداد شفتيك العذبتين.سأبعث لك غدا باكرا بالنقود التي طلبتها…"تشاو'' عزيزي.
أقفلت الهاتف،ثم التفتت إلى صاحبتيها :
أورد الجاحظ في إحدى صفحات كتابه''الرسائل الأدبية''،مايلي :"لم نسمع بعاشق قتله حبُّ غلام.ونحن نعدُّ من الشعراء خاصة الإسلاميين جماعة،منهم جميل بن معمر قتله حبّ بثينة، وكثير قتله حبّ عزة،وعروة قتله حبّ عفراء،ومجنون بن عامر هيَّمته ليلى،وقيس بن ذريح قتلته لبنى،وعبيد الله بن عجلان قتلته هند،والغمر بن ضرار قتلته جمل.هؤلاء من أحصينا ولم نذكر أكثر''(1).
إنها أشهر النماذج الغرامية الخالدة التي بلورتها أنتروبولوجيا الثقافة العربية،بجانب التي أرستها باقي الثقافات الإنسانية الأخرى :روميو وجولييت، كيلوباترة ومارك أنتوني، أبولو ودافني، باريس وهيلين، بيراموس وثيسبي، شاه جيهان وممتاز محل،ماري وبيير كوري، الملكة فيكتوريا والأمير ألبرت، بيتهوفن وتيريزا مالفاتي…
طبعا،تظل هذه الأمثلة الست،التي حصرها الجاحظ،مجرد نماذج جلية وعلنية تمكن المؤرخون في نهاية المطاف من توثيقها بهذا الخصوص،نظرا لذيوع صيت أطرافها،وتميزهم الجمالي على مستوى سبر أغوار أحاسيسهم والإنصات الشفاف لأصواتهم العميقة جدا، ثم التعبير عن ذلك بلغة الشعر السرمدية،فأبقت تلك الوقائع الشخصية لامتناهية ضمن صيرورة الزمان،وأخرجتها من إطارها الذاتي الخالص كي تأخذ بعدا كونيا،يتأبد ويترسخ؛مابقي الكون والناس والحب والحياة والجمال…
جميل بن معمر/ بثينة :
صُنِّف جميل بن معمر بكونه شاعر العشق من الدرجة الأولى،وبامتياز رائد شعر الغزل العذري،نسبة إلى قبيلة عُذرة؛ وادي القرى،التي تميز أفرادها برقة ودماثة فتساموا بروافد حب عفيف؛متجرد عن تلك النوازع العابرة.لذلك،وصفوا بكونهم إذا عشقوا وأغرموا، فقد اختاروا لامحالة مصير الموت التراجيدي،نتيجة إخفاقهم فيما يتعلق بتحقيق تطلعاتهم الغرامية.
هكذا،قيل ذات يوم في حق شباب هذه القبيلة،إنهم''قوم إذا أحبُّوا ماتوا"،جملة وردت على لسان شخص،عندما سُئل عن هويته وانتمائه،حينها صاحت جارية،بعد سماعها لهذا الجواب : ''عُذْري وربّ الكعبة''.
سبب تفسير سر هذا الهوى الذي ينتهي بصاحبه إلى المكابدة والموت حزنا،فقد جاء التأويل أيضا وفق ذات سياق أفق الجواب الأول،من خلال تأكيد أحدهم بأنهم يرون عيونا لايراها غير أهل قبيلة بن عذرة، مما يدل على مستوى الحضور الخُلُقي الذي ميز نساءهم.
أما أخلاقيا أو إيتيقيا ،فحينما ينشغل فؤاد رجل لديهم بعشق امرأة،كان يبادر إلى التغزل بها،وذكر اسمها في أشعاره،حتى إذا ذاع الخبر أسرع وجهة أهلها قصد خطبتها والزواج بها.هنا يكمن لبّ المشكلة،بحيث جرت الأعراف غالبا على أن يبدي والد الحبيبة رفضه التام،نظرا لانكشاف سر ابنته شعريا،بالتالي تداول الألسن لاسمها. في المقابل،يعقد قرانها ،درءا للفضيحة ومحوا للعار،بأول رجل يتقدم لطلبها.
في خضم هذه المحددات المجتمعية،اختمرت وتبلورت إحدى أكبر وأشهر قصص العشق خلال فترة العصر الأموي،تلك التي نسج خيوطها الرفيعة جميل بن معمر وبثينة بنت خبأ.
نشأ جميل بن معمر وسط البيئة الحجازية لقبيلة قضاعة أو بني عذرة،اتصف بوسامته وحسن مظهره وطول قامته.شخص عذب القول،جمع بين قرض الشعر وروايته بحيث كان راويا لهُدية بن خشرم.اعتبره شعراء الغزل إمام المحبين،بل بوأه ابن سلام الجمحي صاحب الطبقات،مكان الريادة في هذا المجال على حساب باقي الشعراء.
ربما،اختزل المقطعان التاليان، نوعية مزاج ونفسية شاعر متيَّم من عيِّنة جميل:
يقولون جاهدْ، ياجميلُ، بغزوة وأيّ جهاد غيرهن أريد
لكل حديث عندهنَّ بشاشة وكل قتيل بينهنَّ شهيد
أما عن حيثيات أسباب لقائهما الأول،فقد قصد جميل ذات يوم بإبله واديا:''يقال له بغيض، فاضجع وأرسل إبله.ثم أقبلت بثينة وجارة لها واردتين الماء.فقامت بثينة بتنفير إبل جميل، فسبها وهي إذ ذاك صبية صغيرة،فافترت عليه وسبته فملح إليه سبابها رآه مختلفا، سلس الحروف، عذب المعاني يستحيل في الأذن شدوا ويحل في النفس أهلا وكاد يوشك كلما توقفت أن يسألها المزيد ليزداد طربا. أما بثينة فلم تكن على علم بكل مايختمر في صدر جميل من عواطف، لذلك حسبت سكوته نصرا لها، تتوج به عاصفة الشتم التي أمطرته بها.ولما قفلت عائدة فحزن وأحس بأن الحياة كلها قد أقبلت بإقبالها وأدبرت بإدبارها.وأحبها من يومها وقال في ذلك واصفا بداية حبه لها :
وأول ماقاد المودَّة بيننا بوادي بغيضٍ يابثين سبابُ
قلت لها قولا فجاءت بمثله لكل كلام يابثين جواب''(2)
سباب وشتائم،أضحى مفعولها شرارة جمرة حب توقدت وازدادت اشتعالا،ولم ينطفئ وهجها سوى برحيل صاحبيها توجعا وتحسرا،بل صارت عنوانا لقصة غرام متفردة جدا باتت معروفة باسم مَزْجي جميل- بثينة،تعبيرا عن الذوبان الزوجي داخل بوتقة ذات واحدة،من شدة جاذبية الصبابة والهوى.