ارتبطتُ وجدانيا بشغف لايوصف، منذ فترة مبكرة من حياتي، بالجريدة الورقية والصحافة المكتوبة عموما، بحيث شكلت لديّ إلى جانب مذياع صغير، نافذتين مشرَّعتين تماما وجهة حلم لامتناهي بجدلتي الهنا والهناك، فأكتشف العالم رغم كل شيء، بصدر رحب.
وقد سَكَن الليل، تلتصق أذناي ليلا براديو ترانزستور صغير، لم يكن بوسع أنفاسه غير الاكتفاء بأثير جغرافية محلية،غير أنَّ تركيز وثراء ماكان يقدَّم آنذاك ثم عمقه بقدر نواياه الصادقة، بلور حمولة كافية حتى يغمر حواسي ترياق يانع؛ لاينضب، يحاور بين السياسي والفني والثقافي.
مع حلول الصباح، فأول ما أسرع إليه، بمجرد إبداء الشمس لأول خيوطها، يتمثل في الهرولة نحو كشك الجرائد، كي أنتزع حقي من هذه المتعة اليومية.
صلاة صباحية لاشيء يفسرها، وطقس فكري لاغنى عنه بتاتا. تتحدد نوعية حيثياته، حسب امتلاك الجيب لثمن الجريدة المتوخاة، أو انعدام ذلك.
حينها، أستعمل استراتجيه أولى قبل التفكير في اقتنائها.أرمي نظرة خاطفة صوب ملامح صاحب المحل كي أتبيَّن وأقيس درجات ظرفه من شره، فإذا حدسته شخصا أقرب إلى المنحى الأول، بالتالي لامجال لحدوث مشاكل، أبادر إلى تناول الجريدة بسرعة البرق وتصفحها لأكتشف بجرة نظرات خاطفة مضمونها، إن صادفته ثريا اقتنيتها دون تردد وإلا فلا داعي، مما يمنحني راحة ضمير داخلية مادمت حافظت بأمانة على عهدة مصروف المنزل.
يوم 15 نونبر، فطنت البشرية، إلى أنَّ عدد أفرادها فوق هذه الأرض قد بلغ بالتمام والكمال سقف ثمانية ملايير،حسب تقارير المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة. طبعا، نسبة عددية يلزم أن يُخْصم منها فَرَضا حشود وقوافل الذين ماتوا بين طيات أزمنة سحيقة؛ تناسبا مع الامتداد الأصلي لزمن الأرض. بالتالي، كان بوسع العدد الحالي مقاربته درجة أكبر بكثير، مما يقتضي حتما ازدحاما تحت سقف البسيطة وثقلا مأساويا لايتصور مقارنة مع المعطيات الراهنة.
كم عدد البشر الآخرين الذين مروا على ظهر البسيطة وتلاشوا جراء قانون الموت؟ فلنتصور أيّ معنى ستأخذه الحياة أرضيا، لو انعدمت خرائطية الموت بقوانينها المنطقية الدالة.
للإشارة فقط، من باب الاستطراد في الموضوع حتى تتجلى وتتسع الرؤية، تؤكد نفس الدراسات المهتمة بـأن تعدادنا السكاني سيتطور إلى 9 .7مليار سنة 2050، ثم 10.4عند حلول سنة.2080
توقع،يطرح تحديات مصيرية ودقيقة جدا، بخصوص تحقيق أهداف التنمية المستدامة، بمفهومها المتكامل جراء تمتيع الكائن البشري بمختلف حاجياته البيولوجية وترسيخ حقوقه المعنوية ضمن سياق الانتساب الفعلي إلى عالم يحظي بفضاء بيئي سليم.معادلة أضحت بعيدة المنال؛ بل مستحيلة في خضم سطوة جشع رهيب، يُمَأسسه ماديا ورمزيا، محليا ودوليا، بكل الأحاييل والرهانات شرذمة من يملكون ضد جحافل من لايملكون.
توجد الإنسانية مرة أخرى بين كفَّي عفريت، تخوض حربا كونية أخرى بمختلف الوسائل، ثم تداعيات ذلك الجهنمية على يومياتها؛ أساسا معركة وجودية مصيرية على إيقاع شتى الجبهات، طرفاها المعلومان والمباشران هما روسيا و أوكرنيا ؛منذ 24 فبراير2022 ، أو الأشقاء الأعداء مادامت الأخيرة استمرت منذ ظهور الاتحاد السوفياتي حتى فترة تفككه سنة 1991 ،المكوِّن الجغرافي الأهم الثاني بعد روسيا قياسا لباقي أذرع إمبراطورية الحزب الشيوعي في موسكو.
صراع معقد، لامحالة، سببه المباشر التصدي للتهديد الناجم عن محاولة توسيع الناتو بضمِّ أوكرانيا، لن يتوقف على الأقل تأثيره العسكري و تتبلور حيثياته الانقلابية، دون إحداثه لتغيرات جوهرية تهمّ الخريطة الدولية وبلورته لمستجدات نوعية طويلة المفعول؛ ستُشَكِّل نسقا أمميا آخر يجبُّ ما قبل الحرب بتفاصيله السياسية، الاقتصادية، الديمغرافية، الاستراتجية، إلخ .
بالتأكيد، لاأحد بوسعه التكهُّن على وجه اليقين بموعد النهاية أو طبيعتها، لأنها معركة بقاء وسيادة، سواء بالنسبة لبوتين أو زيلينسكي ومن خلفه الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا، وإن تأرجحت كفة الميزان إلى حد ما لصالح القوات الأوكرانية، ضد بوتين المدعوم لوجيستيكيا بكيفية مباشرة من لدن جمهوريات أرمينيا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، بيلاروسيا، ثم مساندة معنوية مصدرها إيران، كوريا الشمالية ، كوبا ، فنزويلا، سوريا ، نيكاراغوا ، مع الرمزية الكبيرة للموقف الصيني المنحاز على الأقل نظريا إلى صف بوتين ، نظرا لحساسية السياق المفرطة فيما يخص موضوع تايوان.
رغم قوة داعمي أوكرانيا وسخائهم، لأنَّ منظور الناتو يستشرف أبعد من ذلك، غاية حتمية إلحاق الهزيمة بروسيا وإخضاعها، مثلما أن بوتين لم يعد مشروعه ينتهي عند إسقاط النظام النازي في كييف حسب نعته؛ بل القضاء على الجماعات العسكرية الإرهابية المتربِّصة بالأراضي الروسية انطلاقا من الشرق الأوكراني.
أصبحت حرارة الأرض ساخنة، بحيث ارتفعت أسهم القيظ بشكل كبير جدا. وضع يكتوي بناره الجميع. كان، تصور سيناريو غليان قبَّة الطهي الحالية، قبل عقود، مجرد شرود خيال؛ يُتداول أكاديميا فقط داخل أروقة العلماء المختصين.
نعم، ماكنتُ أتسلى باستشراف ممكناته البعيدة للغاية، عبر بوابة الشاشة الصغيرة؛ وسيلة التسلية المذهلة، خلال تجمعات الأماسي الأسروية محتشدين بسعادة غامرة حول مائدة العشاء، نتابع بلهفة لاتوصف متواليات مثيرة لأحد الأفلام الهوليودية النادرة آنذاك. أريد القول، أضحى اليوم عند رأسي مباشرة حقيقة لاغبار عليها.
مشاهد اعتُبرت خلال ذلك الزمن، احتمالا خارقا يتجاوز الافتراض، نسجه خيال أهل السينما بهدف الرهان فنيا وتجاريا على التشويق والإثارة، بالتالي يبقى الأمر واقعيا مؤجلا إلى مستقبل يظل هلاميا بامتياز؛ دون مسوغ واقعي يذكر.
بيد أنه، للأسف توقف السينما على بقائها مجرد انتشاء فانتازي، كي تعيش الإنسانية برمتها فعلا تلك الوقائع بقضها وقضيضها، دون التباس يذكر أو خطأ في تقديرات التنبؤات التخمينية وكذا استقراءات العلماء المختصين :
حرارة جهنمية، شمس خانقة جاثمة باستمرار فوق رؤوس الجميع وسط كبد السماء، شحّ الموارد المائية، أمطار هوجاء مزاجية، مجاعات و أوبئة ، نضوب الموارد الطبيعية الأولية…باختصار تصحر مهول لكوكب الأرض، جعل الأخير يئنُّ وسط مقلاة ضخمة ساخنة.
استمر خطر الاحتباس الحراري، غاية بداية الحديث جديا عن اتساع ثقب الأوزون سنوات الثمانينات، خطابا نخبويا صرفا يهم أقلية قليلة من العقلاء، لكن مع مرور السنوات تجلت نتائج ذلك على أرض الواقع ، يشعر الناس بآثاره المباشرة. اختفاء، تقريبا شبه واضح، لتواتر الفصول الأربعة وفق إيقاع منتظم كما السابق، لصالح القيظ فقط، وكلما زادت حرارة المحيط الجوي، تبعا لتطورات شتى نتائجه المدمِّرة، تراجع بكيفية مهولة الدفء الحميمي بين البشر، واضمحلال حرارة العيش المشترك، التي تبقي الطبيعة طبيعة، والإنسان ابنا شرعيا لها، بارَّا بها، تحافظ على كنه طبيعته غير الملوثة.