يكمن الموت عبر امتداد اللامكان،هكذا عهدناه دائما حسب ثوابت ثقافة المجتمعي المألوف.يحضر كي يغيب،ثم يغيب كي يحضر.كائن مجرد،محض تمثُّل ذاتي،بلا ملامح معلومة،يتغذى شأنه على الخيال الذاتي والهواجس الفردية،كل واحد منا يحدِّد مصير موته على طريقته،ويختار لطبيعة بقائه مايريد.
لكن منذ فترة،اتضح للبشرية بأنَّ للموت مكان بعينه،واضح المعالم،بأبعاده الهندسية والمادية،قد استوطنه بعد كل شيء هذا الوحش الغادر وجعل من أركانه ملاذا لعبوره،مثلما تجلَّت أساسا هويته المفترضة.
غزة موطن للموت، مختبر للإبادة،حقل مجاني للإعدامات،أوراش مقصلات ضخمة، مكان للاجتثاث، هندسة رعناء للتدمير،فضاء لمختلف تواريخ البربرية،مقبرة موت لايريد أبدا أن يموت.
أخيرا،حطَّ الموت رحيله عند مرفأ غزة،بقدر ما أدرك العالم وضعا ملموسا لهذا المجهول المسمى موتا،فقد تبدَّى أمام الموت أيضا،بأنَّ العالم قد أضاع بوصلة الحياة.لم يعد للحياة من مَنْزَع قياسا لهذا العالم المفلس،لذلك تُذبح غزة واقفة،تتمسك بالحياة رغم مختلف قوانين تنفيذ الموت.موت في كل مكان،هبوب حقد جارف،استحال على اللغة رصده بعبارات التداول المسكوكة.
تحتاج مخاطبة الموت في غزة إلى حياة جديدة للغة غير محنَّطة.صياغة بدايات عبر كل معاني اللغات السالفة،اعتقدنا طويلا بكونها معلومة للسائل والمجيب،لكن تجلَّى بوضوح أنَّ مستويات اللُّبس مهولة،لذلك تُنحر غزة من الوريد إلى الوريد.
يشملنا الموت قاطبة،نتلاشى جميعا.الكلُّ مُذْنب.
مامعنى جلّ التراث القائم :الموت؟ الحياة؟ الإنسان؟ البشرية؟ القانون؟ التعايش؟ المحبة؟ الأخلاق؟ القيم؟ الرحمة؟ شعور الذَّنب؟إلخ. لم يعد ذلك المعجم الإنساني،مثلما يجدر به أن يكون.هكذا،أضحت كل هوية غزة تمارين للموت،جنون موت،حياة جنون،لانهائية السطو على ممكنات الحياة.
ما أبشع التلذُّذ بالقتل ! نزوات إدمان الموت لمجرد تعطش سوداوي.
جوهريا،تطرح التقنية في أوج ذروتها المعاصرة،من خلال كونية الصور، باختزال كل شيء إلى التقاط مرئي فوري؛دون وساطة ذاتية أو موضوعية،علاقة العقل بالشرِّ واستتباب أبعاد ممكناته،ومدى سعي العقل أساسا إلى تثبيت لبنات مساوئ الشرِّ. ثم،إن تحقق هذا الأمر لسبب من الأسباب، فهل يشكِّل المآل ولادة طبيعية أو فقط اضطرابا هرمونيا؟
عموما،يقدَّم في هذا الإطار،جواب متوارٍ يضمر تأكيدا مفاده أنَّ تطورات التقنية أفرزت أدوات شرِّيرة كثيرة،تضمر حصيلة مختلف الأمراض النفسية،لكنها خلال الآن ذاته،وطَّدت مختلف السبل نحو رصد الصور الفاضحة،المحاصِرة لتداعيات الشرِّ أينما سارت وكذا أفعال الأشرار نحو الآخرين،بحيث صار اليوم مستحيلا تماما إخفاء حيثيات الأوضاع بأيِّ صيغة من الصيغ؛على الأقل وفق تجليها المادي دون لبس يذكر،اللهم ذاك التزييف المعنوي والفكري مثلما تشتغل عليه الأجهزة الأيديولوجية.
هكذا،يراقب العقل نتائجه،يتعقَّب متوالياتها،يستبطن ذاته متوخيا رصد خطاه. تمثِّل راهنا صورة الذكاء الاصطناعي و الديجتال،لاهوت الزمن المعاصر،غلافا هوائيا موازيا للهواء الطبيعي،يتنفَّسها الإنسان مثلما يستنشق ذرات الأكسجين،وظله اليومي الذي لايفارقه ربما سوى خلال انغماسه في نومه.
كلَّما وقعت كارثة وجودية :انتحار، قتل، جنون، مرض عضال؛ يتحلَّل من خلاله صاحبه ألما وتصدُّعا،إلا وانتبه الإنسان أكثر من ذي مضى لوضعه الوجودي ضمن تجاذبات الحياة والموت،فاستحضر بزخم عميق تلك الأسئلة الميتافيزيقية الجوهرية التي تتناول ثانية جدوى ولادته من عدمها، مصيره، موته، مابعد موته.
كلَّما حدثت كارثة طبيعية :الزلازل،الأعاصير،العواصف الهوجاء،إلخ،يستعيد الإنسان بكيفية أكثر شفافية وصدقا وانتباها،قياسا لكل ماسبق،علاقته بالمجال البيئي، مستويات الوصال والانفصال،حدود ممكنات امتلاك عناوين خريطة لأسرار الطبيعة، ثم سبل إقامة علاقات متوازنة دون استباق أو مباغتة؛قوامها التوازن واحترام الإنسان لجوهر الطبيعة.
كلَّما استفحلت نتائج سلبيات كارثة مسار سياسي : الانتهاء إلى جواب الحرب، بؤس مجتمعي، فشل سياسات عامة،إخفاقات برامج وخطط،إلا وتطلَّع الإنسان نحو التخلُّص من مقدمات الجاهز قصد الشروع في طرح أسئلة جذرية بخصوص كفاءة القيادة، فاعلية التدبير، سؤال الدولة، مؤسَّسات النظام، طبيعة العقد الجامع بين الحاكمين والشعب.
حاليا،تعكس يوميات مجزرة غزة مصبًّا لروافد الأسئلة الثلاث،عبر تكثيف جليّ لمجازات الأطروحة الأخيرة،مقارنة مع الأولى والثانية،نتيجة التركيز على صنيع الساسة والسياسيين،والإفلاس الذي آل صوبه الضمير الجمعي.
ستقدِّم قصيدة ستيفان مالارميه ألغازا لانهائية،لكل فيلسوف توخَّى تبنِّي مهمة تحليل الخيال الأدبي بتحديده المواد الشعرية للصور وكذا معطيات الإلهام المختلفة.فقد رفض،هذا الشاعر الاستثنائي،جلَّ الإغراءات الأولية للجوهر المتواري خلف الكلمات؛وصمد بخصوص التمرُّن على قوى الاعتقاد الشعري.
يلزم على الشعر في تصور مالارميه،تشكيل قطيعة حيال مختلف عاداتنا،لاسيما الشعرية.يتضمن لغزا لانستوعبه جيدا إذا اكتفينا بتقييمه من وجهة نظر الأفكار:بالتالي يمكننا القول،بأنَّ مالارميه غامض.
لاتعبِّر تيمة أبدعها مالارميه عن لغز فكري؛بل تجسِّد معجزة للحركة.يتحتَّم على القارئ،أن يتهيَّأ ديناميكيا قصد تمكُّنه من استلهام إيحاء فعَّال،ويكسب تجربة جديدة بخصوص حيثيات أكبر الحركيات : حركية المتخيَّل.
توضِّح لعبة النقائض عند فيكتور هيغو مانوية أخلاقية بسيطة للغاية.أما جدلية التعارضات لدى أوغست دو فيليبي دو ليل أدم،نظن معها الشاعر هيغيليا،فإنَّها تسود أفكاره وكذا صيغه.
بالنسبة إلى مالارميه،يهيمن الجدل على الحركات؛وينتعش عند نواة الحركات نفسها المستوحاة.دائما،بين طيات نصوصه،ترتدُّ الحركة الشعرية إلى ذاتها.لايوجد اندفاع دون احتجاز، ولااحتجاز دون تطلُّع.جراء ذلك،يتجه ظنُّ القارئ السطحي- القارئ الفاتر- نحو إمكانية حيرة الشاعر : الوضع غير ذلك، إنه يختبر اهتزازا.