تنتفض الذاكرة جماليا كي تنفض الغبار عن جلدها،تستعيد مشارب بوتقة سياقات زمن ذاتي يتداخل طبعا بمقتضيات الموضوعي،فتوطدت بالتأكيد المعالم المفصلية لبناء شخصية الكاتب واستدراجه نحو مجرى أفق معين دون غيره.
تؤكد بعض تأويلات المطَّلعين على الكتابات السير-ذاتية، بأنَّ كل راوٍ لنصوص من هذا النوع، يتوخى أساسا التوثيق بذاكرته ليس لمعطيات حياة عاشها فعلا،بل هي حيثيات حياة أخرى يتطلع كي يعيشها حقا. تقول إحدى أولى مقاطع هذه المحكيات :
''ولجتُ الغرفة،كان أبي مسجَّى تحيط به أمي وجدتي وخالي محمد.عيناه مفتوحتان، بالكاد، وقد تسمر نظره نحو السقف.الفم مفتوح مع غرغرة حشرجة.لاحظتُ جدتي تسكب قطرة عسل، لتليين فصل الروح عن الجسد مثلما فهمت بعد ذلك.الوقت زوالا،هكذا استمر الصراع من أجل البقاء،أربع ساعات تقريبا،لأني أذكر صبيحة ذلك اليوم وأنا أهمُّ للمغادرة نحو المدرسة،لاحظت بذكائي الطفولي أن أبي يلحُّ علي بملاحقة متكتِّمة،لم أعهدها من قبل،كأنه أراد اصطحابي أو إخباري بشيء ما،لكن لسانه لم يسعفه. صار حقيقة تلفظه شحيحا، يعبر أكثر بسيمياء وجهه،لاسيما حاجبيه و تقوسها الحاد حين الغضب. نظرة مختلفة تماما،تضمر مغزى معين، لم أستوعبه إلا بعد سنوات، وشرعت ذاكرتي بين الفينة والثانية، تجذبني من أذني قصد استعادة الوقائع،لكن مثلما أريدها أنا.
في الليلة الأخيرة قبل صباح الرحيل،هيأت أمي للعشاء طبق أرز بالحليب و الزبدة والعسل،أمدته بصحن فلم يأبه، ثم عاودت الكرَّة بملعقة ممتلئة وضعتها في فمه،لكنه أزاحها جانبا ممتعضا.شرع يهذي بكلام،غير مفهوم لم نفرز منه سوى كلمة واحدة : سنسافر''.