بالتأكيد،أشهر تحدٍّ ارتبط بالترجمة والمترجِمِ،أداء الأمانة غاية منتهاها،كأنَّه حمل ثقيل على أكتافه وكاهله.الترجمة،مسؤولية وازنة تقتضي تعاملا دقيقا مع الموقف.سفر نحو وطن جديد،يقتضي منذ البداية التفاعل الجادّ مع الموقف،وإحساسا بالتقدير والاحترام واستحضارا لمعطيات الخصوصية؛ضمن جدلية الوحدة والتعدُّد،وأكثر من هذا وذاك،التهيُّب الممزوج بالخوف،مادام المترجِمُ يكتشف نفسه مع كل ترجمة جديدة عند أولى خطوات مغامرة غير معلومة أو مضمونة يعتبر وحده مسؤولا على توضيب مختلف حيثياتها.
هناك المثل الايطالي الشهير،الجاري تقريبا على ألسن الجميع،المرسِّخ لقاعدة''المترجِمُ خائن''والترجمة مبدئيا خيانة،بمعنى يكمن إقرار ضمني لايمكن التخلُّص من تبعاته،مفاده أنَّ المترجِمَ مهما بلغت دقَّته وكذا مستويات حرصه على الإحاطة بالمعنى المقصود من طرف صاحبه،لكنه غالبا مايظلُّ قاصرا بكيفية أو أخرى،عند هذا المنحى أو ذاك،بخصوص هذا المعطى أو ذاك،يستحيل عليه مهما بلغت قوَّة تأويلاته بين طيات سلاسة مضمونه،مجاراة دلالات اللغة المصدر.
طبعا،وجب استحضار بعدين أساسيين،أثناء مصادفة هذا الحكم. يتمثَّل الأول،في اختلاف منظور السجال وطبيعة التصوُّر،حسب طبيعة النصوص ودرجات غموضها وتعقيدها.بينما يحيل البعد الثاني،على الجانب المجازي لوصل الترجمة بالخيانة،من ثمَّة، تعدُّد تأويلاته بنفس قدر غزارة ممكنات العلامات اللغوية وفيضها اللانهائي،وانطواء كل تواصل على عتمة يشغلها الالتباس حتما وبالمطلق.
بناء عليه،ينتقل المبدأ الايطالي،بخصوص النظر إلى ترجمة المترجِمِ،من قاعدة معيارية ذات منحى أخلاقي وعقائدي،ربما منطوقها يثبِّط العزائم ويضعف الهمم من الوهلة الأولى،إلى إجراء منهجي يأخذ مقاسات إبستمولوجية مُهَيْكِلَة حسب المقتضيات النصيَّة الموصولة بالسياق.
أصدرت دار يسطرون للنشر والتوزيع السعودية،عملا جديدا للباحث سعيد بوخليط. ثلاثون نصَّا حكائيا، تضمنَّتها صفحات كتاب تبنى هوية العنوان التالي :
ترانيم ذاكرة، سيرة الأيام الأولى.
هكذا، اشتغلت الذاكرة بسخاء واستفاضة وعطاء، بهدف صياغة البناء الهيكلي الناظم لهذه السرديات التي وضَّب سعيد بوخليط خيوطها المفصلية على امتداد سنوات غير متباعدة، لكن مادتها ومضمونها وترسباتها الحكائية مترسِّخة أكثر بين طيات زمن بعيد يمتد إلى السنوات المبكرة من طفولة بوخليط، كي تستحضر ثانية مجموعة وقائع حياتية خَبِرها الراوي وشَكَّلت منذئذ أبعاد وعيه مثلما وجهت مساره الشخصي والفكري.
نصوص،تستعيد البدايات بنبرة حنين واضحة،يتداخل بين طياتها الذاتي والموضوعي، الوصفي والخيالي، الجلي و الرؤيوي، الصريح والضمني. جملة اعترافات تبوح بشفافية عبر استبطان الذات، تهمس، تعترف، تبوح، تبكي، تفرح، تضجر، تتأفَّف، تصرخ، تصمت، تساجل، تتذكر، تتأمل، تتطلع. كما، تعبر ضمنيا خلال الوقت ذاته،عن عملية ترميم لهذه الذاكرة،بتكثيف عمليتي البوح والتذكُّر.
انعدام التعلق بأيِّ شيء يقينيا، يمثل حسب تقديري الخاص، أفضل قاعدة منهجية لتدبير واقعة الحياة، والنجاة منها بأقل الخسائر الممكنة،عكس القاعدة التي يمضى وفقها باستمرار اعتقاد الأغلبية، بأنه لاحياة يسيرة دون أمل جاثم، بمعنى مصدر متعة الحياة وأساس إمكانية تحملها من عدم ذلك، يكمن حتما في ضرورة الرهان على شيء ما؛رغم كنهه الوهمي، ثم التطلع نحو تحقيقه، وإلا فالمصير الحتمي لن يخرج عن كمين الاجترار المتثاقل لليوميات، وفي أفضل الحالات مدى القدرة على انتشال وجودكَ من براثن بؤس المصير،عبر الانتقال إلى ضفة الموت الإرادي، سواء كان اختيارا واعيا أو غير معلن عنه.
إذن، يشاع بأنَّ العيش دون وازع أمل راسخ نحو اعتقاد ما، يجعل الحياة جحيما، بحيث تنصب وجهة بوتقة الحياة كل معاني الشغف، التفاؤل، الرغبة، التطلع، بينما تشير أضدادها مباشرة إلى احتفال بغرائز الموت.
بناء عليه، يظل التصور الأسلم، بهذا الخصوص،انطلاقا من وجهة نظر مختلفة عن الثوابت النمطية لمقولتي التفاؤل والتشاؤم، صياغة جواب يهمُّ معطيات لعبة الحياة ضمن محفزات تصوِّر يراهن على كل شيء ولاشيء أيضا، يراقبها كدينامية أفق مفتوح على مختلف الاحتمالات وتتصورها كواقعة طارئة بامتياز،من ثمة، يستحيل تسيُّدها، تعريفها، تحديدها، بل ولااستشرافها على وجه اليقين المطلق.
كيف نستوعب حقا هذه المعادلة اللَّزِجة، القائمة على حيثيات أقرب إلى مشهد الصراع بين القط والفأر؟ من جهة، لاتقوم للحياة قائمة سوى إذا استمر الإنسان محكوما بالأمل، ثم في الآن ذاته، الأكثر سعادة في الحياة أفراد لاينتظرون منها هدية، يؤمنون فقط بثراء وسخاء المحتمل، مستبعدين بالتالي كل يقين من انتظارهم.
أصدرت دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، مؤلَّفا جديدا للباحث سعيد بوخليط. العمل الحالي، ترجمة لإحدى كلاسيكيات الفكر الإنساني، التي خلفها إرث غاستون باشلار، تحديدا تلك المنتسبة لعناوين مشروعه المندرج ضمن سعيه صوب تأسيس مفاهيم جديدة للنص الأدبي، انتقلت بالأخير من السياق الخارجي نحو التمثُّلات الجوانية؛ وكذا رصد حضور تيمات معينة لدى هذا الشاعر أو ذاك، ودرجات تبلور تأملاته الشاردة حول عنصر كوني بعينه قياسا لباقي العناصر : الماء، النار، الأرض، الهواء.