حينما بدأ يعمُّ فوق سطوح المنازل،انتشار اللاقط الهوائي أو البارابول،أواسط التسعينات،وقد كانت أثمنتها آنذاك ليست في المتناول القريب،بل احتاج أغلب المهتمِّين إلى اقتنائها بالتقسيط.جرى إبَّانها تحوُّل اجتماعي مهمٌّ للغاية،أثَّر نوعيا على مقوِّمات البنيات السوسيو- ثقافية القائمة طويلا،مثلما يحدث فعليا نتيجة كل المستجدَّات النوعية سواء كانت فكرة أو شيئا ماديا.
إذن،على غرار الانقلابات البنيوية،لم تعد أحوال الناس،بعد تبلور ثقافة البارابول،مثلما سادت قبل ذلك.
بهذا الخصوص،أذكر صديقا بادر حينها دون سابق تحضير يذكر،إلى خطبة فتاة كيفما اتّفق والزواج بها،ثم إسراعه بإحضارها إلى بيت والديه و أختيه؛واحدة مطلَّقة وأخرى ولجت عتبة سن ''العنوسة''حسب التحديد العامي المتداول،كي يتقاسم الجميع الجحر الصغير.عندما استفسرته عن السبب الذي دفعه دفعا نحو هذه المجازفة المفاجئة،أجابني على الفور :
-"إنها لعنة البارابول ياصديقي،ومفعوله السحري على البلاد والعباد".
أبانت ملامحي استغرابا،لطبيعة ردِّه الغريب،فاستفاض شارحا :
-''لم أعد قادرا على مقاومة غريزتي الملحَّة،وأنا أتابع مساء باندهاش الفضائيات؛ لاسيما تلك المستفِزَّتين.الأولى،تهتم بالمواعدة الغرامية صحبة نساء من فصيلة غير المعهودة في حياتنا اليومية،بحيث تطل على امتداد اليوم نسوة شقراوات كأنَّهن قادمات من عالم ثان؛أشهى من العسل،يضعن رقم هواتفهن بكيفية تصحبها أساليب تغنُّج لذيذ.الثانية،خاصة بتقديم برامج تداريب الرَّشاقة،يفصح معها الجسم عن أرخبيلات تنحدر من الاستيتيقا الإغريقية تُكتشف للمرة الأولى بطريقة ساحرة.لذلك،أسرعت إلى الزواج''.
هكذا مرَّت مائتا يوم،على بداية إحدى أشواط المواجهة القديمة/الجديدة؛وكذا الجديدة التي لن تغدو قط قديمة،تتَّسع الفترة الزمنية شهرا بعد شهر،وكأنَّها سرديات تتعلَّق بحكاية فريق سينمائي حطَّ الرحيل لتصوير سيناريو فيلم،فاشتغل خلال تلك المدَّة على تصوير مشاهد تمثيلية حربية أو تستعيد حيثيات كارثة جغرافية مسحت مكانا آهلا سلفا بالبشر ومغمورا بالحياة،وأضحى مجرد أثر بعد عين.
قلت فريقا سينمائيا،كناية عن الحلم،مادمت أتمنى الاستمرار في غفوة نومي تحت وطأة هذا الكابوس اللامتخيَّل حقيقة،حتى لاأكتشف بمجرد الاستيقاظ،بأنَّه معطى للأسف ليس كذلك،بل موصول بجريمة واقعية متكاملة المعالم واضحة الدلائل تتوالى فصولها واقعيا ضمن أبعاد الزمكان الهندسي خلال القرن الواحد والعشرين،تبعا لكل تجارب آليات منظومات الإجرام التي بلغها مدى العقل الشرِّير،وسط عالم يدعى حديثا،في قلب المدينة المعاصرة،ضمن مسار المدنية المتحضِّرة،أمام تبصُّر وبصيرة مختلف مؤسَّسات الحكمة البشرية.
مائتا يوم،شكَّلت ساعاتها إبادة محكمة الصُّنع في حقِّ الفلسطينيين،عفوا اقتلاعا لجذور الإنسان وكنه الإنسانية وماتبقى للإنسان كي يظلَّ سيِّدا على نفسه.رقم جليٌّ في ذاته،ربما بدا خفيفا على اللسان،يجري مجرى اللُّعاب،لأنَّه يبقى رقما في نهاية المطاف مثلما يقال،لكن دلالة المائتين الواردة في هذا السياق ليست قط كذلك،نتيجة إحالتها المباشرة على ماكينة موت شرس لم تتوقَّف أبدا رحاها،وتجسيد للفطرية الحيوانية وفق أبشع مظاهرها،لذلك يعتبر حقا تعداد وحداته،أثقل ثقلا من حمولة صخرة سيزيف.
تراجيديا كبيرة حدثت منذ الثامن أكتوبر،غاية 23 أبريل(نيسان)،اليوم الذي أدركت معه جلسات احتفالات القتل يومها المائتين : 34ألف قتيل و77 ألف مصاب؛أغلبهم من الأطفال والنساء،على وجه التقريب مادامت النسبة غالبا أكثر بكثير.تعطُّل الطاقة الإنتاجية للمنشآت الاقتصادية في غزة؛بحيث ناهزت الأضرار المادية رقميا 30 مليار دولار.انهيار،مصادر الأنشطة الاقتصادية تحديدا مابين بين 90 و95.% تدمير منازل أكثر من مليون شخص، ونزوح 75% من السكان. يحتاج 11 ألف فلسطيني جريح،العلاج خارج القطاع الذي تدمَّر تقريبا.فيما يكابد 10 آلاف آخر آلام السرطان ويكتسحهم الموت كلّ آن.
لاشك،أنَّ مرتكزات الإطار العام لانتعاش أسباب هذه الجريمة،وتمدُّد شرايينها الدموية طيلة مائتي يوم،أمام أعين الإنسانية،نكاية بوجودها،تحقيرا لمختلف معانيها القائمة والممكنة،تنهل بكل أريحية من السَّقطات الكبرى الثلاث،التي ليست بالاكتشاف الجديد بل تعكس فقط مزيدا من تمادي الشرِّ بخصوص إفشاء مكنوناته الدفينة،ثم استفاض أكثر في سبيل الإبانة عن سوء طويَّته،ولم يعد يملك مايخجل منه :تضاعف مبتذل ومكشوف جدا لحربائية أمريكا،ازداد نفاق الغرب الأوروبي خبثا،استفحل السرطان الصهيوني تعفُّنا.
منذ مذبحة مخيم صبرا وشاتيلا يوم 16 سيتمبر 1982،وقد بلغتُ آنذاك عتبة إرهاصات تشكُّل وعيي السياسي،بحيث اختبرتُ هزَّات شخصية قدر بعدها الوجودي، خلخلت بحدَّة ممكنات طمأنينة طفولتي،ضمن تداخل روحي بين الذَّاتي والموضوعي،بلغ علمي وجود شيء في هذا العالم اسمه القضية الفلسطينية،ثم نتيجة اطِّراد معرفتي بالمعطيات السياسية وتراكم سياقها ونضجها،وفق وتيرة شغف حضرني فطريا دون تأثير أو تهيئ قبلي،أدركتُ حينها،أنَّها قضية تتجاوز كثيرا ما عرفته بمناسبة واقعة المذبحة،وكذا ماالتقطتُه بالكاد من أخبار حول مايجري بفضل جهاز مذياع في حجم كفِّ اليد،عبر أثير نشرات إخبارية نفيسة للغاية؛مع ندرة المعلومات إبَّان ذلك الزمن البعيد.
داخل فصول الدراسة،أذكر أستاذا للغة العربية،خلال تلك الفترة،لايبدأ قط الحصَّة التعليمية قبل إحماءات ضرورية تمزج حقيقة بين الهزل والجدِّ،حينما يحفِّزنا على طريقته التربوية المذهلة،قصد التَّباري نحو الإسراع إلى السبُّورة لتشكيل النصِّ المكتوب وضبط حركات الحروف وإعراب ماتيسَّر من الجمل،ثم بعد ذلك التحوُّل إلى التغنِّي بمقاطع فيروز. ذات يوم،أملى علينا قصيدة ''زهرة المدائن''،وألحَّ بأغلظ أيمانه،على ضرورة أن نحفظها كي نستظهرها أمامه في صبيحة اليوم الموالي عن ظهر قلب،وسيؤثِّر ذلك بالتأكيد على علامات التنقيط سلبا أو إيجابا .
''سنحدِّد أهدافا لتجنيد اليهود المتشدِّدين في الجيش الإسرائيلي وفي الخدمات المدنية الوطنية،وسنحدِّد أيضا وسائل لتنفيذ هذه الأهداف''.عبارة،أدلى بها نتنياهو خلال إحدى المناسبات،مؤكِّدا بالتالي رغبة حكومته قصد إعادة طرح قانون إعفاء اليهود المتشدِّدين من أداء الخدمة العسكرية،أثارت كثيرا حفيظة المتديِّنين المتشدّدين،أو مسَّت''بكيفية غير مقبولة"الوضعية التاريخية لجماعة الحريديم،نسبة إلى كلمة الحريدي التي تعني التقيِّ،وتشير إلى اليهود الأرثوذوكس،الذين اتَّسعت نسبة قاعدتهم العددية داخل المجتمع الإسرائيلي بحيث تقارب حاليا%24 ضمن نسيج عدد سكان،ويلعبون دورا مفصليا بخصوص تشكيل الحكومة وتأليف لبنات مكوِّناتها ثم إمكانيات نيلها ثقة الكنيست،ضمنها طبعا حكومة نتنياهو اليمينية المتطرِّفة.ذلك،أنَّ بقاءه في السلطة،يعتمد بنيويا على أصوات أحزاب الحريديم.
هؤلاء المتديِّنون،تمتَّعوا دائما منذ قيام الكيان العبري سنة1948، بإعفاء قانوني من التجنيد الإجباري حينما اتَّفق آنذاك ديفيد بن غورين مع حاخامات الحريديم على استثناء أربعمائة رجل ينحدرون من هذه الجماعة ومكوثهم داخل المدارس الدينية بغية دراسة التعاليم التوراتية.