مقالات نقدية الكفيف ولذَّة الكفوف
2025 - 05 - 18

بدأت تنتشر رويدا رويدا حكاية هذا الكفيف،بعد أن لاحظ ساكنة الحيِّ سلوكا مشينا،مارسه في حقِّ الآخرين أو بالأحرى الأخريات على امتداد حقبة زمنية،إلى أن صار متداولا تلوكه الألسن حسب سياقات ومقامات الحديث،بكثير من التفكُّه،بنفس مقدار سخطهم وعدم رضاهم،وصبِّ شتى اللَّعنات على رجل يعيش خريف العمر،يتعاطف معه الناس لعاهته المستديمة،فيسرعون إلى الاهتداء به وإرشاده نحو مقصده،بأسرع مما لو حاول فعل ذلك وحده؛وربما تعثَّر وسقط.

دأب طيلة الفترة السابقة عن انكشاف أمره،على مغادرة منزله صباحا؛غالبا بين الثامنة والثامنة ونصف،راغبا في الذهاب إلى المنطقة الأخرى من الحيِّ،المتواجدة عند ملتقى السُّبُل الرئيسة المفضية إلى مختلف دروب المدينة،بحيث يساعده دبيب الحركة وتقاطر حشود العابرين،على الصمود واقفا عند ركن رحب من الشارع والتسوُّل خلال ساعات،ثم العودة مساء إلى بيته الذي يؤويه وحيدا منذ فترة غير بعيدة بعد وفاة زوجته؛ولم ينجبا.

يترك منزله،يبدأ في نسج الخطى قليلا،ثم يشرع في مناداة العابرين :

-''ياأهل الله ! يامحسنين !من يأخذ بيدي ؟أسأل المولى أن لايحرمه من نعمة البصر والبصيرة معا''. يخفض صوته،كي يهمس بنبرة فاترة :

-''آه ! أيُّتها البصيرة ''.

يكاد صوته لايسمع،ويحرَّك شفتيه بكيفية لايلتقط مضمونها سوى من كان بمحاذاته، دون أن يشعر الكفيف بوجوده :

- ''أيُّها العميان،تتوهّمون ثقب عيونكم بصيرة،شتَّان مابين فقدان البصر ونعمة البصيرة !''

مقالات نقدية المجنونة المتحرِّشة بالنساء الحوامل
2025 - 05 - 09

حينما كان يلتقي بصري ببصرها،خلال سياق هذه الحكاية؛وقد انقضت الآن سنوات طويلة،تبدو للوهلة الأولى فتاة عادية صاحبة ملامح وديعة ووجه سمح المحيّا،يستحيل أن تظنّ بها الظنون.لكن،بمجرد تبلور هذه الصورة الآدمية باعتبارها شخصا عاديا،حتى تعيد بسرعة إعادة صياغة شكل وجهها السابق،جملة وتفصيلا،كما لو أزالت بجرَّة حركة بسيطة قناعا مصطنعا،تنحرف عيناها فتغدو حولاء،تخرج لسانها من فمها بطريقة مستفِزَّة،فيأخذ طولا عجيبا كأنَّه ظلَّ فقط قابعا داخل جوفها،ثم تشرع في إصدار أصوات غريبة؛تبعثها تباعا وفق ترانيم إيقاعية مضبوطة من قعر بطنها.

عاينتُ مرارا خلال زمن الطفولة،هذه التجربة الغريبة سواء ضمن نطاق حيِّنا أو دروب أخرى في مراكش القديمة،بحيث دأبت الفتاة المجنونة على التِّجوال الحثيث،لايتوقَّف طوافها،تنتقل مشيا من مكان إلى ثان،بسرعة قياسية،لذلك لقَّبها البعض ب''الغابر الظَّاهر''،'' اسْحْتْ الليل''،نتيجة سرعة طيِّها الأحياء وحضورها عبر الأمكنة خلال ظرف قياسي.

أيضا، سُمِّيت ب''مُولاتْ لْما(الماء)''لأنَّها شغوفة بالاستحمام حتى عزّ الشتاء،في تلك السواقي المتواجدة آنذاك على امتداد مسافات متقاربة،بجانب مراحيض عمومية يلجها الذكور أساسا،تقتحمها كثيرا عندما تزداد حالتها سوءا،وقد يحدث الأمر في أوقات حرجة للغاية،لحظات جلوسهم القرفصاء على امتداد مربَّع الحوض المائي الموجود وسطا،نصف عراة تقريبا،بصدد تطهير مؤخِّراتهم وأجهزتهم الأمامية قبل الانتقال إلى المسجد،فتحدث ضوضاء وجلبة،وتبدأ اللعنات تتقاذفها من طرف الجميع والسخط والغضب،ولايخفِّف نسبيا من حدّة ردود الأفعال سوى علمهم بكونها مجنونة،بينما هي تطلق العنان لقهقهات ساخرة وهستيرية مردِّدة عبارة''طْزْزْ يَارْجَالْ آخر الزمان''.

مقالات نقدية أبو الأسود الدؤلي
2025 - 04 - 27

عندما نستحضر كوكبة الطَّليعة التراثية لعلماء اللغة والنحو العربيين،يبرز من الوهلة الأولى ضمن هؤلاء جميعا،اسم أبي الأسود الدؤلي رغم أنَّه لم ينعم بنفس الشهرة التي حظيت بها أسماء أخرى،كما تميَّزت المصادر التاريخية حول معطيات حياته وفكره بقلَّتها،شحِّ معطياتها،تضارب رواياتها،تباين معلوماتها بكيفية مفارقة؛قياسا لباقي روَّاد تراث العربية الأوائل.

أنجز سيبويه خلال القرن الثاني الهجري أبواب وهياكل عمله الضخم''الكتاب''،مما أثار بداية نقاش لازال مستمرا غاية الآن فيما يتعلق بالجذور المعرفية تاريخيا لتشكُّلِ لبنات النحو العربي،ثم تبلور موقفين بخصوص محدِّدات التأويل. 

أعاد فريق جذور هذا العلم الجديد إلى أصول يونانية وسريانية وهندية،بينما تمسَّكت جماعة ثانية بأصوله الإسلامية العربية،تحديدا لحظة انصهار مشروع مشترك بين الإمام علي بن أبي طالب وأبي الأسود الدؤلي،بل هناك،من يمتدُّ بهذه الحلقة ضمن سلسلة النحويين العرب،أبعد من أبي الأسود الدؤلي غاية إشارات''نصر بن عاصم''،''عبد الرحمن بن هرمز''،''يحيى بن يعمر"،قصد تقويض آثار التأثيرات الأجنبية،بمعنى آخر لم يكن بوسع سيبويه وقد قاربت المسافة الزمنية الفاصلة عن مرحلة الدؤلي ثمانين سنة تقريبا،إنجاز تنظير بذلك العمق المنطقي والدِّقة البنيوية والشمولية المنهجية،دون وجود إرث لغوي مؤسَّس  بشكل من الأشكال،و هاجس معرفي متواتر انتقل باللغة العربية إلى مرحلة نضج البناء والهيكلة النظرية وصياغة الخلاصات.

مقالات نقدية مقبرة اختلاس الملذَّات
2025 - 04 - 20

شغلت هذه المقبرة حيِّزا كبيرا من فضاء الحيِّ،فقد امتدت مساحتها ملء البصر.يفصل بينها،والمجال الثاني المجاور الذي يقطنه الأحياء،جدار محايد لايتجاوز أقصى ارتفاعه قامة شخص متوسِّط الطول،مما جعل تسلقّه أمرا معتادا خلال كل آن.

أيضا،تشكَّلت عند منتهى حَدِّ الجدار يسارا،حفرة بحجم معتبر جرَّاء تراكم عوامل التَّعرية،مما ضاعف أكثر فرص إمكانية النَّفاذ داخل المقبرة؛وأضحت بالتالي مسألة في غاية اليسر،قد لايجابه ضمنيا سلوكا من هذا القبيل غير العائق المعنوي الموصول بأعراف قدسية المقبرة لدى اعتقاد الساكنة ومن ثمَّة حظر الذَّهاب إليها سوى لضرورة الدفن،لايزيغ عن القاعدة  الراسخة إلاَّ هالك؛ويعتبر جانحا وصعلوكا.

طبعا،لم أتكلَّم عن الباب والمدخل الرئيسي المعلوم،الذي يقصده دافنو الموتى.باب خشبيٌّ تراثيٌّ مترهِّل،مغلق دائما؛لايفتح على مصراعيه سوى لحظة ذيوع خبر وفاة أحد مكوِّنات الساكنة،أو صبيحة الجمعة؛ابتداء من الفجر غاية الزَّوال،باعتباره يوما تنبعث خلال ساعاته صلة الأحياء بالأموات،نفس الأمر يسري على السابع والعشرين من كلِّ رمضان.

لم يكن هناك خوف من الموت لدى جيران المقبرة،فليموتوا متى أرادوا،دون هواجس مكان الدفن أو احتمال الابتعاد عن أنس مكان ارتبطت به تفاصيل حياتهم.المقبرة جاثمة في عين المكان؛بالكاد هي خطوات معدودة،تتجاوز مساحتها الحيِّز الآخر الذي تشغله مآوي الأحياء.

بغضِّ النَّظر عن الموت،نسج وجود المقبرة من جهة أخرى،يوميات خاصَّة ضمن خط التَّلاقي بين الأحياء والأموات،بحيث صارت تهيِّئ خدمات متعدِّدة غير مواراة الموتى،بلورها أساسا شباب المنطقة،الذي عثر معها على ملاذ رحب قصد الاختباء عن ترصُّد العيون،من أجل إنعاشه هامش الممنوع بلعبه الورق،مراهنات القمار،جلسات الخمر الهادئة،تنظيم مباريات في كرة القدم إبَّان أماسي رمضان،المتع الجنسية العابرة والمدَبَّرَة،الأحادية و المختلطة،بجانب استغلال حصيلة الغِلال التي يثمرها خلاء المقبرة موسميا،كنبات الخُبَّيْزة وقطفها ثم بيعها في الأسواق،مما أرسى مصدرا سانحا للرِّزق، وحبَّات النَّبق المتَاحة أيضا مجَّانا بفضل السدر الشوكي،لمن يرغب في التحلِّي بالصَّبر قليلا على جنيها،والإسراع بها أمام واجهات المدارس؛حيث يتزاحم الأطفال لشراء حفنات من الفاكهة الحلوة.

تحميل المزيد
لا مزيد من المشاركات لاظهار